فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (67):

{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67)}
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً} أي شرعا. {هُمْ ناسِكُوهُ} أي عاملون به. {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك، فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في الأنعام والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى: {مَنْسَكاً} [الحج: 34]. وقوله: {هُمْ ناسِكُوهُ} يعطى أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه.
وقال الزجاج: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أي فلا يجادلنك، ودل على هذا {وَإِنْ جادَلُوكَ}. ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك، فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الامر بالقتال، تقول: لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت، فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ أبو مجلز: {فلا ينزعنك في الامر} أي لا يستخفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة من المنازعة. ولفظ النهى في القراءتين للكفار، والمراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} أي إلى توحيده ودينه والايمان به. {إنك لعلى هدى} أي دين. {مستقيم} أي قويم لا اعوجاج فيه.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)}
قوله تعالى: {وَإِنْ جادَلُوكَ} أي خاصموك يا محمد، يريد مشركي مكة. {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} يريد من تكذيبهم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن ابن عباس.
وقال مقاتل: هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الاسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى، فأوحى الله إليه: {وَإِنْ جادَلُوكَ} بالباطل فدافعهم بقولك: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} من الكفر والتكذيب، فأمره الله تعالى بالاعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم، ولا جواب لصاحب العناد. {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} يريد بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقومه. {فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل. مسألة- في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف، يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}.

.تفسير الآية رقم (70):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ} 70 أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. {إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ} 70 أي ما يجرى في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن الفصل بين المختلفين على الله يسير.
وقيل: المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)}
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ} يريد كفار قريش. {مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} أي حجة وبرهانا، وقد تقدم في آل عمران. {وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)}
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} يعني القرآن. {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي الغضب والعبوس. {يَكادُونَ يَسْطُونَ} أي يبطشون. والسطوة شدة البطش، يقال: سطا به يسطو إذا بطش به، كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه. {بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} وقال ابن عباس: يسطون يبسطون إليهم أيديهم. محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. واصل السطو القهر. والله ذو سطوات، أخذات شديدة. {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ} أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر، فقيل هو النار.
وقيل: أي هل أنبئكم بشر مما يلحق تالى القرآن منكم هو النار، فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في {النَّارُ} الرفع والنصب والخفض، فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعنى، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى، أي أعرفكم بشر من ذلكم النار. والخفض على البدل. {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في القيامة. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.

.تفسير الآية رقم (73):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} هذا متصل بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً}. وإنما قال: {ضُرِبَ مَثَلٌ} لان حجج الله تعالى عليهم بضرب الأمثال أقرب إلى أفهامهم. فإن قيل: فأين المثل المضروب، ففيه وجهان: الأول- قال الأخفش: ليس ثم مثل، وإنما المعنى ضربوا لله مثلا فاستمعوا قولهم، يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره، فكأنه قال جعلوا لي شبيها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبيه.
الثاني- قول القتبي: وأن المعنى يا أيها الناس، مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا وإن سلبها الذباب شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه.
وقال النحاس: المعنى ضرب الله عز وجل ما يعبد من دونه مثلا، قال: وهذا من أحسن ما قيل فيه، أي بين الله لكم شبها ولمعبودكم. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} قراءة العامة {تَدْعُونَ} بالتاء. وقرأ السلمى وأبو العالية ويعقوب: {يدعون} بالياء على الخبر. والمراد الأوثان الذين عبدوهم من دون الله، وكانت حول الكعبة، وهي ثلاثمائة وستون صنما.
وقيل: السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله عز وجل.
وقيل: الشياطين حملوهم على معصية الله تعالى، والأول أصوب. {لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً} الذباب اسم واحد للذكر والأنثى، والجمع القليل أذبة والكثير ذبان، على مثل غراب وأغربه وغربان، وسمي به لكثرة حركته. الجوهري: والذباب معروف الواحدة ذبابة، ولا تقل ذبانة. والمذبة ما يذب به الذباب. وذباب أسنان الإبل حدها. وذباب السيف طرفه الذي يضرب به. وذباب العين إنسانها. والذبابة البقية من الدين. وذبب النهار إذا لم يبق منه إلا بقية. والتذبذب التحرك. والذبذبة نوس الشيء المعلق في الهواء. والذبذب الذكر لتردده.
وفي الحديث {من وقى شر ذبذبه}. وهذا مما لم يذكره، أعنى قوله: وفي الحديث. {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} الاستنقاذ والإنقاذ التخليص. قال ابن عباس: كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فتجف فيأتي فيختلسه.
وقال السدى: كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله. {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل: الطالب الآلهة والمطلوب الذباب. وقيل بالعكس.
وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم، فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه، والصنم المطلوب إليه. وقد قيل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً} راجع إلى ألمه في قرص أبدانهم حتى يسلبهم الصبر لهم والوقار معها. وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوه من دون الله عز وجل على خلق مثله ودفع أذيته فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين وأربابا مطاعين. وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.

.تفسير الآية رقم (74):

{ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
قوله تعالى: {ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق عظمته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. وقد مضى في الأنعام. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 40 تقدم.

.تفسير الآيات (75- 76):

{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)}
قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ختم السورة بأن الله اصطفى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتبليغ الرسالة، أي ليس بعثه محمدا أمرا بدعيا.
وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال: أو أنزل عليه الذكر من بيننا، فنزلت الآية. وأخبر أن الاختيار إليه سبحانه وتعالى. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لأقوال عباده {بَصِيرٌ} بمن يختاره من خلقه لرسالته. {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يريد ما قدموا. {وَما خَلْفَهُمْ} يريد ما خلفوا، مثل قوله في يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا} [يس: 12] يريد ما بين أيديهم {وَآثارَهُمْ} يريد ما خلفوا. {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} 210.

.تفسير الآية رقم (77):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} تقدم في أول السورة أنها فضلت بسجدتين، وهذه السجدة الثانية لم يرها مالك وأبو حنيفة من العزائم، لأنه قرن الركوع بالسجود، وأن المراد بها الصلاة المفروضة، وخص الركوع والسجود تشريفا للصلاة. وقد مضى القول في الركوع والسجود مبينا في البقرة والحمد لله وحده. قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي امتثلوا أمره. {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ندب فيما عدا الواجبات التي صح وجوبها من غير هذا الموضع.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}
قوله تعالى: {وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ} قيل: عني به جهاد الكفار.
وقيل: هو إشارة إلى امتثال جميع ما أمر الله به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، أي جاهدوا أنفسكم في طاعة الله وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في رد وسوسته، والظلمة في رد ظلمهم، والكافرين في رد كفرهم. قال ابن عطية: وقال مقاتل وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وكذا قال هبة الله: إن قوله: {حَقَّ جِهادِهِ} وقوله في الآية الأخرى. {حَقَّ تُقاتِهِ 10} [آل عمران: 102] منسوخ بالتخفيف إلى الاستطاعة في هذه الأوامر. ولا حاجة إلى تقدير النسخ، فإن هذا هو المراد من أول الحكم، لان {حق جهاده} ما ارتفع عنه الحرج. وقد روى سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير دينكم أيسره».
وقال أبو جعفر النحاس. وهذا مما لا يجوز أن يقع فيه نسخ، لأنه واجب على الإنسان، كما روى حيوة بن شريح يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» وكما روى أبو غالب عن أبى أمامة أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الجهاد أفضل؟ عند الجمرة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فلم يجبه، ثم سأله عند جمرة العقبة، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أين السائل»؟ فقال: أنا ذا، فقال عليه السلام: «كلمة عدل عند سلطان جائر».
قوله تعالى: {هُوَ اجْتَباكُمْ} أي اختاركم للذب عن دينه والتزام أمره، وهذا تأكيد للأمر بالمجاهدة، أي وجب عليكم أن تجاهدوا لان الله اختاركم له. قوله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ حَرَجٍ} أي من ضيق. وقد تقدم في الأنعام. وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام، وهي مما خص الله بها هذه الامة. روى معمر عن قتادة قال: أعطيت هذه الامة ثلاثا لم يعطها إلا نبى: كان يقال للنبي اذهب فلا حرج عليك، وقيل لهذه الامة: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. والنبي شهيد على أمته، وقيل لهذه الامة: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ}. ويقال للنبي: سل تعطه، وقيل لهذه الامة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ 40: 60}.
الثانية: واختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله تعالى، فقال عكرمة: هو ما أحل من النساء مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت يمينك.
وقيل: المراد قصر الصلاة، والإفطار للمسافر، وصلاة الإيماء لمن لا يقدر على غيره، وحط الجهاد عن الأعمى والأعرج والمريض والعديم الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والغريم ومن له والدان، وحط الإصر الذي كان على بنى إسرائيل. وقد مضى تفصيل أكثر هذه الأشياء.
وروى عن ابن عباس والحسن البصري أن هذه في تقديم الأهلة وتأخيرها في الفطر والأضحى والصوم، فإذا أخطأت الجماعة هلال ذى الحجة فوقفوا قبل يوم عرفة بيوم أو وقفوا يوم النحر أجزأهم، على خلاف فيه بيناه في كتاب المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه. وما ذكرناه هو الصحيح في الباب. وكذلك الفطر والأضحى، لما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن المنكدر عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون». خرجه أبو داود والدارقطني، ولفظه ما ذكرناه. والمعنى: باجتهادكم من غير حرج يلحقكم. وقد روى الأئمة أنه عليه السلام سئل يوم النحر عن أشياء، فما يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم الأمور بعضها قبل بعض وأشباهها إلا قال فيها: «افعل ولا حرج».
الثالثة: قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى، ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج. قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ} قال الزجاج: المعنى اتبعوا ملة أبيكم. الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف، كأنه قال كملة.
وقيل: المعنى وافعلوا الخير فعل أبيكم، فأقام الفعل مقام الملة. وإبراهيم هو أبو العرب قاطبة.
وقيل: الخطاب لجميع المسلمين، وإن لم يكن الكل من ولده، لان حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال ابن زيد والحسن: {هُوَ} راجع إلى إبراهيم، والمعنى: هو سماكم المسلمين من قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَفِي هذا} أي وفي حكمه أن من اتبع محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مسلم. قال ابن زيد: وهو معنى قوله: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]. قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول عظماء الامة. روى علي بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله عز وجل المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، قاله مجاهد وغيره. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} أي بتبليغه إياكم. {وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلغتهم، كما تقدم في البقرة. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} قد تقدم مستوفى والحمد لله رب العالمين.